نهر الغمقة – Al Ghamqa river

Rahaf Wannous (رهف ونّوس) – Loady Doshi (لودي دوشي)

Workshop: City production: between the usual and the exceptional- 2021

الاستحقاق المكاني لأنهار شرق المتوسط

في الجغرافيا السورية، كان للأنهار دور في التكوين الحضري للعديد من المدن الداخلية التي توجد بها كنهر بردى الذي نشأت عليه مدينة دمشق. على الرغم من اختلاف الأنهار والعوامل المتعلقة بتصنيفها وأهميتها، تبقى ذات أهمية كبيرة في مورفولوجية المدينة والعمليات الايكولوجية القائمة عليها، كما أنّها تُشكل آليةً مهمة للصورة الذهنية للمدينة. إلا أن بعض المدن الساحلية في سوريا أفقدت أنهارها الساحلية أهميتها الحضرية الفيزيائية والبصرية مُقابل الواجهة البحرية. فنرى هذه المدن تعطي أهمية لحدودها وحوافها المائية مع البحر موليةً ظهرها للأنهار الموجودة بها والمُشكّلة لمساراتٍ مختلفة الأهمية ضمنها. ليتوجه الاهتمامُ إذاً في هذا المقال لتلك المساحة المكانية المتنازعة بين النهر والبحر في المدينة ومحاولةِ تسليط الضوء على العلاقة التي تجمع نهر الغمقة بطرطوس.

في الخرائط الأولى المرسومة للمنطقة الشرقية من حوض المتوسط (كالتي رسمها الاصطخري1) يظهر كل من بحر الروم – المتوسط حالياً- والأنهار الداخلية الهامة التي نشأت بلاد الرافدين عليها كدجلة والفرات (صورة-1). وعند اتباع ظهور الأنهار  الساحلية في الخرائط التاريخية لحوض البحر الأبيض المتوسط خاصة المنطقة الشرقية منه، نَجدُها غائبة عن خرائطها، مما  جعل القيام بعملية تتبع زمني لعدد من الخرائط الموجودة في الفراغات الافتراضية وفي الأرشيفات الموجودة على مواقع الانترنت أمراً أساسياً لهذه الدراسة، فكان منها الخريطة التي وضعها الرسام الألماني مارتن فالدسيمولر عام  1513 معتمداً على أعمال بطليموس من القرن الثاني الميلادي  (صورة 2) ، و خريطة لسوريا من مجموعة هولندية معنونه بـ” جنة عدن أو الجنة ” 1526 ( صورة3 ) أو من أعمال سباستيان مونستر-رسام الخرائط الألماني 1545 (صورة 4) والتي أظهرت “النهر الكبير الجنوبي” مرسوما دون أنهارٍ ساحليةٍ أخرى لازالَ بعضها موجوداً حتى الآن (صورة5)، ثم ليعود ويظهر نهر الكبير الشمالي –المار في اللاذقية- لاحقاً في خريطةٍ تُعدُ جزءاً من سلسلة خرائطَ كانت قد رُسمت من قبل فيشر لإدراجها في الكتاب المقدس الهولندي عام 1657. (صورة6)

نستنتج من هذه المقارنة أن الأنهار الممتدة في عمق الجغرافية السورية هي التي تم توثيقها أمّا الأنهار الساحلية بشكلٍ عام تم تجاهلها وقد يكمن السبب لعدم وجودِ مدنٍ كبيرةٍ عليها سوى المدن الساحلية نفسها تلك التي تحويها، أو قد يكون بسبب وجودها وامتدادها في مناطق زراعيةٍ أو قرى، أو كونها موسمية تعمل كمسيلاتٍ مائية في الربيع أو الشتاء. وهذا ما يجعل السؤال الأهم عن كون العوامل الطبيعية هي من جعلت من هذهِ الأنهار غير ظاهرةٍ في الخرائط، وهل هذا يُعززُ الفكرة عن كونِ الواجهة البحرية قد أخذت الحيز الأكبر من الأهمية فيها؟

مع قيامِ الدولة السورية ككيانٍ مستقل سياسي واقتصادي واجتماعي، إضافةً لتطور الدراسات العلمية خاصةً الزراعيةِ منها والمائية أصبحت الخرائط تأخذ بعداً جغرافياً أعمق من التوصيف وأقرب للتحليل والاختصاص. تم رصد عددٍ من الأنهار الساحلية في سورية على شكل ِخرائط َدراسية تُظهرُ علاقة الأنهار والمدن، على الرغم من كون بعضها خرائطَ محليّة أو مصوراتٍ تخص الحدود الإدارية للمدينة أو المحافظة التي تقعُ ضمنها. (صورة7+8)


كذلك بدأت دراسات الجغرافيا الاهتمام بالانهار المحلية. فيما يخص الساحل السوري، هنالك ما ورد في كتاب ” المرافئ والمراسي على الساحل السوري” للحجازي2 والذي اعتبر هذه الأنهار أساس للثروة المائية والغذائية للمناطق التي تقع فيها، والتي أُغفلت وأصبحت مُتَجاهلةً نوعاً ما بسبب التركيز على عناصر أخرى في الساحل. وكونها معرضة للتلوث، التجاهل والجفاف فأخذت الدراسات ترسمها أو تحصيها كمواد مائية مهملة في الساحل السوري. (صورة 9)

غير أن اختصار المسيل أو النهر الساحلي لمورد بنية تحتية لتغريبه عن ذاكرةٍ مهمةٍ ترتبط بالمدينة، ويبتعدُ بذلكَ عن كونه من العوامل تساعد في فهم المدينة وتكوين الصورة الذهنية لها كما ذكر لينش في كتابه صورة المدينة3 ،وبالتالي تتمثّل المشكلة البحثية المطروحة في إعطاء بعض المدن الساحلية السورية أهميةً لحدودها وحوافها المائية مع البحر على حساب الأنهار الموجودِة بها،  ليصبح بعضها منسياً كما هو الحال مع نهر الغمقة في طرطوس – فهو على الرغم من أهميته تاريخياً في العهد الفينيقي إلاّ أنّه من الأنهار الساحلية المنسية حيث فقد أهميته كواجهةٍ مائيةٍ نهريةٍ نتيجة التضاد بينه وبين الواجهة المائيةِ البحرية على المتوسط ، فلم يكن هنالك تكاملٌ من الناحية التخطيطية بينهما بل كان التركيزُ الأكبر على الواجهة المائية البحرية .خاصة بعد استخدام النهر . كمصدرٍ للماء أساسي للسقاية والزراعة في المناطق الريفية التي يمر فيها قبل وصوله للمدينة.

فإذا في حالة نهر الغمقة كمثال عن انهار شرق المتوسط الساحلية، يصبح الاستحقاق المكاني والفراغي للنهر استحقاقاً تاريخياً أيضاً، يعيد للمدينة نهرها كمكان ونهرها كرواية

المدينة والنهر  (نهر الغمقة – طرطوس)

بالتركيز على مدينة طرطوس سيكون الهدف محاولة قراءةِ الساحل من خلالِ أنهاره بدلاً من المدن، ويتيح ذلك إعادة فهم مدينة طرطوس من الميناء للنهر، بمعنى أخر فهم تطور هذه المدينة بناءً على مركزية النهر وليس اعتماداً أساسياً على مركزية الميناء والبحر. ولذلك سيتم تحليل هذه العلاقة من خلال رسم خرائط للنهر ضمن المدينة وامتدادها داخل جغرافيا الساحل السوري والتقاط عدد من الصور لمسار هذا النهر داخل المدينة وريفها. لكن قبل ذلك لابدّ من التعريف بهذا النهر.

الغمقة هو النهر الوحيد الذي يمر داخل مدينة طرطوس من مدخلها الجنوبي، ينبع من ريف مدينة صافيتا حيث المنبع الأساسي منطقة حصن سليمان – ويرفده نبع آخر من كهفٍ صخري في هضبة تسمى ضهر الغمقة. ويصبُ في البحر المتوسط في الجزء الجنوبي لمدينة طرطوس -سوريا. يبلغ طوله حوالي 20 كم من المنبع حتى المصب حيث يمر بحوالي 12 منطقة إدارية قبل دخوله المدينة. أما ضمن المنطقة الحضرية طول حوالي 3 كم تقريباً من حد الأوتوستراد الدولي (حمص – طرطوس – اللاذقية) وحتى البحر. (صورة 10)

أما تاريخيا، فنهر الغمقة هو نهر أروادي فينيقي بامتياز حيثُ ارتبط النهر مع مملكة أرواد منذ نشأتها وينبع من منطقة (حصن سليمان) بيت أوخيخي وهو معبد جزيرة أرواد الأساسي في الفترة الفينيقية 1000 ق.م إلى 330 م. مرسى تلة الغمقة حيث يصب النهر الغمقة وهي ميناء “اوهيدرا” القديمة إحدى “بنات مملكة أرواد” يعود تاريخها إلى القرن الثامنِ قبل الميلاد حيثُ كانت أرواد الجزيرة تؤمن الأخشاب اللازمة لبناءِ مراكبها من هذا المرسى، وللإمساك بخطوطِ التجارة الكبيرة التي انضمت إليها القوافل مع بلاد ما بين النهرين تحت الحمايةِ الآشورية آنذاك وللسيطرة على الأراضي الخصبة الصالحة للزراعة (زراعة القمح) وهي المفاتيح الثلاثة للازدهار في ذلك العهد ولزيادة سيطرة أرواد أمام قوة مدينة صور آنذاك.2

 فنهر الغمقة الذي نعرفه اليوم كان في ذلك الزمان أكثر اتساعاً ومياهه أكثر غزارة فكان بإمكان الفلك الصغيرة أن تدخل هذا النهر بسهولة وترسو عند مدينة “اوهيدرا” فكان المرسى للاحتماء من تقلبات الطقس وللتزود بالمياه العذبة وصيد الأسماك كما الاستجمام. 2

 حالياً ووفقاً للوضع الراهن فإنَّ منطقة “أوهيدرا” عند المصب  لم تعد موجودة أي لا يوجد أثار لذلك لميناء في الوقت الحالي، حتى أن توضع الميناء الذي يربط أرواد بمدينة طرطوس قد تغير خلال فترات لاحقة ولم يعد نفسه أوهيدرا، وهذا ما يظهر واضحاً في أولى الصور الجوية الملتقطة في فترة الاحتلال الفرنسي لسورية 1923 4حيث تظهرُ فيها مدينة طرطوس ًضمن السور يرتبط تشكيلها الحضري آنذاك بالميناء و الواجهة البحرية – حالياً المدينة الأثرية القديمة التي لا تزال مأهولة-  يظهر في خلفية الصورة نهر الغمقة والطريق الترابي المؤدي إليه مع ملاحظة كونه محاطاً بمجموعة من المناطق السهلية الغير مبنية والتي كانت زراعية آنذاك (صورة 12). بقيت هذه المناطق كذلك لفترة زمنية لاحقة ظهر بعضها في صور الأقمار الصناعية  الملتقطة للمنطقة، ليليها لاحقاً بداية انتشار السكن حول النهر خاصة في المنطقة القريبة من الواجهة البحرية للمدينة أي الجزء الأقرب للمصب (صورة13).

google earth صورة 13: صورة جوية تاريخية من عام 1968 يظهر فيها نهر الغمقة في الجزء الجنوبي لمدينة طرطوس وامتداد التنظيم باتجاه النهر

علاقة نهر الغمقة بالتطورات العمرانية الموجودة في المدينة

وهنا سيتم عرض تاريخياً كيف رسمت الخرائط متجاهلة النهر وكيف اتجه التنظيم الحضري للمدينة نحو الميناء والواجهة البحرية متجاهلاً الواجهة المائية النهرية على عكس المدن الداخلية كدمشق وحماه. في بداية المخطط التنظيمي لمدينة طرطوس الذي وُضِع عام 1964 لوحِظَ تعامله مع نهر الغمقة على أنه حد يفصل بين المنطقة العمرانية للمدينة والمنطقة الريفية، وعلى الرغم من مركزية نهر الغمقة في تاريخية مدينة طرطوس فإن هذه التاريخية ترتكز على ريفية هذه المدينة كما ارتكازها على عمرانها/ مدنيتها. كان النهر جزءاً من الريف و جزءاً من المدينة يُكونُ المجال الحيوي الذي التقت فيه هاتين المنطقتين.

قامت المخططات مع الزمن بتجاوز هذا النهر بسبب توسع المدينة لكن لم تتعامل معه بناءً على حساسيته كحدود مع الريف والمدينة فامتد العمران كما هو قبل وبعد النهر ليصبح مجرى مائي وعقبة طوبوغرافيا ضمن المدينة بعد أن كان يوضح علاقة هذه المدينة بريفها (صورة 14).

كما ذكر سابقاً كان التوسع العمراني للمدينة ضمن المخطط يتعامل مع النهر كخطوط ثنائية البعد فقط، يتم التنظيم حوله أو فقط التعامل مع الشرائح القريبة منه في عملية رسم الخطوط المكونة للبلوكات السكنية، فتنوع العمران حول ضفتيه فنجد منطقة منظمة من الناحية العمرانية الإدارية ومناطق من الممكن تصنيفها ضمن الغير منظم أو الشعبي، بالإضافة لمناطق أخرى غير مستثمرة حتى الأن، مع تنوع في استعمالات الأراضي حيث يوجد الاستعمالات السكنية التجارية المختلطة والاستعمالات الخدمية، الإدارية بالإضافة للأثرية. كما توضح (صورة14) تطور المخطط على طول الواجهة المائية بجوار النهر أو بمعنى أخر التتبع الزمني لدخول نهر الغمقة ضمن التنظيم في بعض أجزائه.

علاقة نهر الغمقة بالسكان

على الرغم من كونه واضحاً بصرياً وفيزيائياً ووجوده في منطقة سكنية مختلفة الأنماط الاجتماعية وتضم مجموعة من نقاط التأثير الهامة في المدينة إلا أنه عند البحث عنه ضمن الذاكرة وعلاقته وساكني المدينة أو روادها لا يحتل الحيز الهام كالذي يأخذه الكورنيش البحري باعتباره فراغاً عاماً للمدينة أو حتى الحيز الذي تشغله حدائقها العامة. 

فعند التوقف والسؤال عن النهر يكون سبب معرفته بالنسبة للبعض بسبب ارتباط تسميته ببعض المناطق السكنية والأحياء الحالية كحي الغمقة الشرقية وكذلك الغربية، إلا أنّه من العناصر التي تُّعد مجهولةً بالنسبة لأخرين، كما نجد ارتباطه بمواقف أو بعلاقة غير محببة مع شريحة أخرى من السكان فلا يذكر منه سوى ما يتعلق به من ظروف بيئية وصحية ذات فترات زمنية مختلفة خاصةً في الوقت الحالي نتيجة تراجع مستوى المياه فيه بشكلٍ كبير.

من خلال تخيل علاقة النهر بالبحر تاريخياً ووفق ما عُرضَ سابقاً كونه شكلًّ جزءاَ ضمن منطقة انتقالية ما بين المناطق السهلية الزراعية والمدينة (صورة 15) وعند النظر حالياً من النهر باتجاه المدينة في أثناء عملية البحث عن ريفية هذا النهر وهويته كفراغ ضمن طرطوس وفي محاولة لقراءة واجهته المائية نلاحظ غياب أي عناصر مرتبطة بالنهر في المناظر الطبيعية أو التصميم الطبيعي للمدينة (صورة 16)

فعلى الرغم من تنوع العمران حول ضفتي النهر وتقاطعه مع شرايين الحركة الرئيسية التي تربط جزئي المدينة على طرفيه لا يوجد  أي عناصر تصميم طبيعية – لاندسكيب- أو نقاط علام مهمّة تتعلق به، فقط  بلوكات مبنية ، دوارات لتنظم حركة السير المتقاطعة في هذه الشوارع، بعض مناطق البيع على الأرصفة كالأكشاك أو البسطات أو العربات ، فعند المرور في تلك المنطقة  نجد أن الاهتمام  موجهاً نحو العنصر الرئيسي هناك المتمثل بالكراج الذي يعد الغاية الأهم للمشاة أو المنتقلين باتجاه خارج المدينة حتى الوصول لوجهتهم المطلوبة (صورة 17)، في هذه الأثناء يستوقف النظر أو يسترعي الاهتمام إمَّا عددٌ من مواقف الميكروباصات أو السيارات أو الأسواق المُشكلّة  من البسطات و أركان البيع والأكشاك الموزعة على ضفتيه باتجاه المنطقة الأهم والتي هي مدخل الكراج دون الاهتمام بوجود هذا الحد المائي الذي على الرغم من تعرضه للجفاف خلال فترات معينة إلاّ أنه من الممكن العامل معه تخطيطاً بطريقةٍ أفضل (صورة 18)

ختاماً من الضروري اعتبار هذا النهر جزءاً من العناصر التخطيطية الرئيسية ضمن المدينة وعدم التعامل معه كمجرى مائي غير مهم (صورة 19). قد يكون إعادة الاعتبار لهذه الواجهة أمراً هاماً ضمن المدينة ويمكن ذلك عن طريق اقتراح شريط أخضر يمتد حول نهر الغمقة ليكون مساحةً خضراء منتجة تمد المدينة بالفراغات الخضراء الضرورية واللازمة مع محاولة لربطها بفراغ الواجهة البحرية والمناطق الخضراء في المدينة أو في المناطق الجنوبية الغربية.

صورة 19 حوض نهر الغمقة مع المواقع الأثرية والمناطق المفتوحة

Leave a Reply

Fill in your details below or click an icon to log in:

WordPress.com Logo

You are commenting using your WordPress.com account. Log Out /  Change )

Twitter picture

You are commenting using your Twitter account. Log Out /  Change )

Facebook photo

You are commenting using your Facebook account. Log Out /  Change )

Connecting to %s