طريق الخبز the Bread path

Dana Aldroubi (دانا الدروبي)

Workshop: City production: between the usual and the exceptional- 2021

بعد عقد من الحرب في سوريا تتكشف تدريجيا مفرزاتها في ظواهر مختلفة، تؤلف مجتمعة الصورة الراهنة للمدينة السورية، ومن ضمن هذه الظواهر، ظاهرة الطوابير بلا شك، الظاهرة التي تفاقمت حتى أطلق على المدن السورية لقب مدن الطوابير، لهذه الظاهرة مسببات اقتصادية ومالية لا يصعب كثيراً تعرفها وتحديدها، ولكن ماذا عن النتائج المرتبطة بالطوابير في المدينة؟ ولكون هذه الظاهرة هي سابقة في سياقها يجدر بنا اقتفاء الآثار التي تسببت في تركها.

تتخصص هذه الدراسة الموجزة ضمن ورشة “المدينة بين المعتاد والاستثنائي” في رصد أحد الأثر تركته ظاهرة الطوابير، وتفترض الدراسة أن ذاك الأثر هو إضعاف شعور الانتماء والارتباط بالمكان.

طوابير – مؤسسات – عمران

تفترض هذه الدراسة الموجزة (ضمن هذه المقالة) وجود علاقات بين: 1 ظاهرة الطوابير 2- ونموذج البناء النمطي في ابنية المؤسسات الاستهلاكية في سورية من جهة أولى وإضعاف الشعور بالانتماء والارتباط بالمكان من جهة أخرى.

ملاحظة: يقصد بالمباني الاستهلاكية في سورية: متاجر صغيرة (متاجر خضار فواكه وغيرها تباع بأسعار مدعومة من الدولة- غالب هذه البضائع لم يعد مدعوماً الآن) أو مخابز (تنتج وتبيع الخبز المدعوم من الدولة- لايزال مدعوماً). تبني الدولة هذه المراكز الاستهلاكية في عدد من أحياء المدن المنظمة فقط،  لتقديم منتجات مدعومة أي أقل ثمناً وبسبب الأزمة في سورية وما تبعها من أزمة اقتصادية أثرت على الموارد الغذائية ودخل الفرد نفسه، أزداد الطلب على المنتجات التي تدعمها الدولة مع انخفاض في كمية هذه البضائع المدعومة أساساً، وبالنتيجة أصبحت جميع مراكز البيع الاستهلاكية التابعة للحكومة بؤراً لتكاثر سلاسل طويلة من الطوابير، وخصوصاً بعد ظهور البطاقة الذكية التي تخصيص حصة الفرد من البضائع المدعومة بعد أن كانت حصته غير محدودة بصرامة، وما يزيد أزمة الطابور بلة هو البيئة العمرانية الحاضنة له  و البيئة المعمارية للمبنى الاستهلاكي بحد ذاته، وهذا ما يسع المعماري دراسته لكون المعماري لا يملك أدوات تحليل أو حل المشكلات الاقتصادية إنما المشاكل المتعلقة بالبينة العمرانية والمعمارية.

 نعمل في هذه الدراسة على برهان وجود العلاقات السابق ذكرها في فرضية الدراسة، والتوسع في تتبع أسباب نشوء هذه العلاقات ضمن السياق العمراني الأوسع، ما هو دور البيئة العمرانية الحاضنة ومفرداتها في المساهمة بإضعاف الانتماء للمكان؟ ما هي بنية الطابور وما هو حاضنها المعماري؟، تعتمد الدراسة على تعداد الظواهر العمرانية المرتبطة بهذه الفرضية (أي دراسة مسار الرحلة العمرانية الكاملة الاستهلاكية من باب سكن المستهلك وصولا للمبنى الاستهلاكي (هنا في الحالة الدراسية هو مبنى فرن خبز الدولة) ما بين المسكن والمبنى الاستهلاكي رحلة ضمن مسار يختبرها الفرد ضمنها تجربة عمرانية)، ولا تكتفي هذه الدراسة بمجرد التفسير للظاهرة عن طريق لغة التكوين العمراني التي يستخدمها المعماري عادة ليحلل المشاهد و الظواهر، بل توسع الإطار لتشمل الاعتماد على التأويل بمفردات ولغة ذات رموز خاصة تنشأ نتيجة التفاعل بين المجتمع القاطن للمكان وبين البيئة العمرانية المبنية، تلك التفسيرات والرموز  هي ترجمة السكان الخاصة لمفردات البيئة الفراغية التي يعيشون ضمنها، تتشكل مع الزمن تدريجيا وتكون جزءاً من ثقافة المكان ( وهنا الطابور كثقافة قائمة) ..

تصب هذه الدراسة نتائجها على شكل قصة مصورة تمثل القضية (حق الإنسان في بيئة تحترم احتياجاته)، وتعرض فحوى الدراسة بمجموعة مشاهد أبطالها سكان من المدينة (سعيد وعيد وغيرهم) ضمن تمثيل لرحلتهم ليومية للحصول على الخبز والوقوف في الطوابير… القصة تطرح سيناريو يحاول أن يفسر: (كيفية مخاطبة المدينة السكان – كيفية ترحيب عمران المدينة بهم في مقابل عدم ترحيبه بهم – الكيفية التي تربط بها المدينة أبناءها بها وتولد لديهم الانتماء في مقابل نبذهم وبذلك تدريجيا تدفعهم لفقدان الانتماء والرغبة في الرحيل..)

تحاول القصة تقديم افتراض لكيفية تكوين شعور الانتماء للمكان أو عدمه باستخدام مفردات لغة المكان العمرانية والرموز الكامنة في كل منها.

مسار الخبز

 ندعوه في الدراسة اصطلاحاً (مسار الخبز): هو مسار لرحلة شبه يومية تحدث في المدينة للوصول إلى المخبز وفق نمط يتكرر في عدة أحياء في مدينة دمشق مبنية على سفح قاسيون، وهي من غرب قاسيون إلى شرقه (أحياء المزة – المهاجرين – شيخ محيي الدين – ركن الدين – برزة)، تشترك جميع هذه الأحياء بنمط رحلة واحد للوصول إلى المخبز، يتألف من ثلاثة عناصر تتكرر في كل مسار خبز على قاسيون في كل من الأحياء المذكورة.

 وفق ما تقترحه هذه الدراسة، العناصر الثلاث المؤلفة ل (مسار الخبز) هي:

أولا: منطقة سكن عشوائي على سفح قاسيون: في مناطق مرتفعة من الجبل سكانها من ذوي دخل محدود بحاجة للخبز المدعوم من الدولة.

ثانيا: منطقة سكنية في أسفل الجبل: سكانها من ذوي الدخل متوسط يستطيعون الاعتماد بصعوبة على خبز غير الخبز المدعوم.  يلي هذه المنطقة أحياء سكنية لذوي الدخل العالي الذين نادراً ما يقصدون المخابز الحكومية لشراء الخبز المدعوم.

ثالثا: مبنى الفرن المدعوم من الدولة يتواجد غالباً على الحد الفاصل بين منطقة ذوي الدخل المتوسط ومنطقة ذوي الدخل العالي أو في أحديهما.

التناقض يكمن في أن الفرن يقصده غالبية هم من الفئة الأكثر حاجة (ذوي الدخل المنخفض) أي سكان العشوائيات حيث تكون المسافة بين مساكنهم والفرن أكبر من المسافة بين سكان المنطقة المنظمة والفرن ذاته، وهنا تصطدم الدراسة تلقائياً بقياس حالة من عدم العدالة في المدينة تظهر بشكل جلي عند دراسة ظاهرة خدمية في المدينة (الطوابير).

كولاج طريق الخبز

يبقي القول أن الدراسة لا تتعمد تبني مبدأ التسمية المبنية على الطبقات للمساكن ولا تعززها، بل تتعامل مع هذه التسميات الاعتبارية كمعطى من واقع (طبقي) لا يمكن تجاهله، بمعنى أن الأحياء تنقسم في المدينة على أساس طبقي. وهذه التسميات هي مجرد تعبير عن الواقع.

تم اختيار أحد الحالات التي ينطبق عليها النمط المذكور، وهي منطقة المزة في جزئها الغربي التي تنقسم إلى

عشوائية في أعلى جبل المزة وتدعى بعشوائية مزة جبل 86 خزّان

عشوائية مزة جبل 86 خزان – والمعالم الأساسية التي تمت دراستها

وفي أسفل الجبل منطقة منظمة لمتوسطي الدخل تدعى بالمزة جبل ويليها منطقة الفيلات الغربية وهي منطقة من ذوي الدخل العالي وتعد من أرقى المناطق السكنية في دمشق.

منطقة المزة جبل والفيلات الغربية – والمعالم الأساسية التي تمت دراستها

يتواجد في منطقة الفيلات فرن لبيع الخبز المدعوم من الدولة رواده هم في الغالب سكان عشوائية المزة جبل 86 خزان وعدد متوسط من سكان مزة جبل وندرة من سكان الفيلات الغربية إضافة لعدد لا يستهان به من سكان بلدات وأحياء مجاورة لا تملك أفران كافية.. كأهالي منطقة السومرية مثلا..

لعمارة مبنى هذا الفرن لغته الخاصة والتي تتوسع القصة المصورة في سردها.. كنموذج يعبر عن طبيعة نموذج ابنية الأفران في سورية. يشكل الطابور مكون عمراني هام في بنية مبنى الفرن وما يميزه أنه يتحول لجزء من تكوين مبنى الفرن يبنيه المكون البشري من السكان (الطابور كجدار يمتد من أجساد المنتظرين)

فرن المزة فيلات غربية
رسم مبسط لبنية الطابور (مسقط)

المسار المدروس:

يدرس المشروع محور يمتد بين نقطتين

 النقطة الأولى: هي أحد المنازل السكنية المرتفعة في عشوائية مزة جبل 86 كنقطة بدء اعتبارية للمسار

وصولا للنقطة الثانية: وهو فرن بيع الخبز المدعوم من الدولة في شارع الجلاء بحي الفيلات الغربية

 وما بين النقطتين نقوم بدراسة رحلة متكاملة ضمن المدينة التي تشكل مسرحاً حافلا بأحداث يمكن أن تروي لنا قصة من يوميات المدينة السورية وهي قصة الروتين اليومي أو شبه اليومي للحصول على الخبز- ندعو هذه الرحلة في هذه الدراسة ب (طريق الخبز). تنقسم أدوات الإثبات وقياس الفرضية الى

أ- أدبيات واقتباسات تفيد في برهان الفرضية (نظرياً)

ب- أدوات القياس والملاحظة والمراقبة العمرانية (عملياً)

ادبيات الخبز والطوابير

أدبيات تفيد في برهان الفرضية

ما علاقة مقومات المكان (البيئة العمرانية) بالتأثير على مفهوم الانتماء لهذا المكان؟ وهنا نخصص السؤال ما علاقة نوعية الحصول على الخدمات الاستهلاكية المقدمة (رحلة الخبز أو الزاد وطوابيرها) بمفهوم الارتباط بالمدينة؟

الاقتباس الأول

عرف ابن خلدون أساس نشوء التجمعات العمرانية على ان

التعاون على تأمين الغذاء هو أساس تجمع السكان

– وفق ابن خلدون نجد أن التعاون على توفير الطعام هو أساس نشوء التجمعات العمرانية، وأن الشرط الأساسي لتحقيق أمان التجمعات العمرانية هو الأمن الغذائي، وفي الحالة المدروسة الطوابير هي شكل من أشكال اضطراب الأمن الغذائي ما يعني اضطراب أمن التجمع العمراني، ونرى في هذا رابطاً مع فرضية الحالة المدروسة (اختل التوازن الغذائي فاختل الأمان في التجمع العمراني ما يضعف ارتباط الأنسان تلقائيا بالمكان).

كيف لا تتزعزع رغبة أي إنسان عن الاستمرار بالعيش في بيئته التي ينتمي إليها بعد أن أصبحت بيئة عمرانية متخلخلة ومهددة؟ كيف لا يختل انتماء الفرد نحو بيئته النابع من اختلال أمن الكيان العمراني نفسه النابع بسبب تراجع أمنه الغذائي؟

الاقتباس الثاني

يقول الشاعر السوري نزار قباني

“فهذه بلادنا

مشرّشون في تاريخها

في خبزها المرقوق

في زيتونها

في قمحها”

من هذا القول نستدل على العلاقة الوثيقة بين الخبز كرمز يمثل جزء من كلّ والعلاقة العضوية بين الكل والجزء لينتج ما هو مرتبط بمفهوم الوطن، ويستغل الشاعر رمزية الخبز بالحديث عن مفهوم الوطن، لكي يعبر عن مدى ارتباط مفهوم الغذاء بمفهوم الوطن الحاضن. لم يجد الشاعر رمزاً أصدق وأكثر تعبيراً عن مدى انتماء وتجذر السوري بأرضه، واستخدام المفردات الغذائية المرتبطة بخيرات البلاد. وهنا في وقتنا الراهن نسأل أين خبزنا المرقوق الذي ذكره نزار قباني لكي نشّرش به؟ أين قمحنا؟ وكيف نحصل عليه عندما يوجد؟

ابن خلدون ونزار قباني ومفهوم الارتباط بالمكان

الاقتباس الثالث

بعبارة أكثر انفعالية ووضوح، نجد في قول الشاعر العراقي أحمد مطر:

“عربة كاسرة تعتاش

والجوع زادي

لم تعد بي طاقة

يا ربي

خلصني سريعا

من بلادي”

نرى في هذا الاقتباس علاقة شرطية واحدة بين الجوع (انعدام الأمن الغذائي) وحالة عدم الارتباط بالمكان (الوطن) وفقاً لرؤية الشاعر أو الحالة الاجتماعية والاقتصادية التي يعبر عنها.

الاقتباس الرابع

من رواية الخبز الحافي للكاتب المغربي محمد شكري وقول بطل الرواية

“يبكي الناس في الريف لأنه لا يوجد إلا الجوع والقحط والحرب “

تهدّئ والدة البطل ابنها

“اسكت! في الغد سوف نرحل إلى طنجة.. يوجد هناك الكثير من الخبز الذي تريد”

وهنا مجدد تظهر مجدداً علاقة الارتباط بالمكان بالخبز (القوت اليومي).

أحمد مطر ومحمد شكري ومفهوم الارتباط بالمكان

الاقتباس الخامس

إبّان انفجار ظاهرة الطوابير في المدن السورية، عبر الناس عن صدمتهم ومعاناتهم وغضبهم على شكل كوميديا سوداء (نكات صورية على مواقع التواصل الاجتماعي الصورية – “ميمز”) يغلب عليها طابع تهكمي، يعبر عن الصبغة العامة لما يشعر به الناس في سورية، ورغبتهم الشديدة في الرحيل نتيجة لتراجع المستوى الخدمي الذي يمس الحاجات الأساسية للفرد، تعبر هذه النكات أيضاً عن التغير الملحوظ لدى السكان بما يخص مستوى الارتباط بالمكان. في هذا المثال (نكتة توم أند جيري)

النكات الشعبية حول موضوع الطوابير

الاقتباس السادس

من هذه النكات ما ينتقد الفترة الزمنية الطويلة التي يقضيها الفرد في الطوابير (نكتة ليوناردو دي كابريو).

الاقتباس السابع

كما ينتقد السكان من خلال هذه (الميمز) الصورة المهزوزة غير الحضارية التي تصدرها الطوابير الطويلة عن وطنهم للعالم ما يضعف شعور انتمائهم للمكان نتيجة لاهتزاز دواعي فخرهم بمكان عيشهم مقارنة مع دول أخرى ومدن أخرى حول العالم (نكتة أطول طابور في العالم). : من الجدير بالذكر أن ظاهرة (الميمز) التي تنتقد الوضع الخدمي في سورية قد انحدرت لظهور قانون في سورية يمنع تداول ما يهز الشعور الوطني (وهن همّة الأمة) الكترونياً وفقاً لتعبير القانون – وفي هذه العبارة دليل آخر على أن الشعور العام مهتز بالفعل..

ادوات القياس والملاحظة العمرانية

وتدمج ادوات القياس العمرانية (كما ذكرنا في مقدمة المقال) التفسير العمراني الفراغي المعماري للظواهر مع التفسير الدلالي الكامن في رموز مرتبطة بتفاعل المجتمع مع البيئة المبنية من خلال الأحداث والأزمات عبر الزمن، ونترك للقصة المصورة مهمة توضيح هذا الأمر.

الاعتماد على طريقة المعماري البريطاني (غوردن كولن)
The concise Townscape

في دراسة وتوصيف المكان العمراني التي استخدمها لدراسة المدن البريطانية التقليدية في كتابه. وهو تطبيق لنظريته: (الرؤية المتوالية لمشاهد المدينة) (serial vision)

غوردن كولن ونظرية المشاهد المتوالية

يشرح (غوردن كولن) الظواهر التي تصنع المكان، وننتقي من هذا الكتاب مفاهيم عمرانية تخدم موضوع فرضية الدراسة وما يصلح لتدعيمها. حيث نستخدم هذه المصطلحات كأدوات لفحص المشاهد العمرانية المتوالية على طول المسار المدروس (طريق الخبز) من أعلى مزة جبل 86 خزان وصولا للمخبز. المصطلحات والمفاهيم المستخدمة التي اختارتها الدراسة كأدوات من كتاب (غوردن كولن) هي:

الظل والملجأ Shade and shelter / الراحة Convenience / الإغلاق (الفراغ المادي واللامادي) Enclosure (Insubstantial space) / اللزوجة Viscosity / مفهوم “هنا” و “هناك” Hereness and Thereness ( النقطة المحرقية Focal point) / مفهوم “هنا” و “هناك” Hereness and Thereness (النظر لإغلاق ما من الخارج Looking into enclosure)

من خلال القياس اتضح لدينا مؤشرات تثبت فرضية أن للمكان دور في خلق حالة الارتباط بالمكان أو ضعف الارتباط بالمكان. ملاحظة: لا يكتفي إسقاط الدراسة العملي لمفاهيم (غوردن كولن) بمجرد التفسير الحرفي التكويني لمفاهيم نظريته على طول الرحلة العمرانية المدروسة، بل تخرج عن هذا الإطار لتزاوج في التأويل بين لغة التكوين التي استخدمها كولن ولغة الرموز المستقاة من تعابير الناس الشعبية المتعارفة حول المكان وهذا ما يتم تطبيقه في القصة المصورة (طريق الخبز)، ونرى أن تلك الرموز تشكل أحد الصيغ التي تخاطب بها المدينة سكانها وبالمقابل الصيغة التي يخاطب بها السكان مدينتهم، هذه اللغة هي تمثيل أو تجلي  للشعور العام  نحو المكان

توقعت الدراسة في البداية أن تقيس كل ما هو يدل حالة من ضعف الارتباط بالمكان إلا أنها اصطدمت بمعايير إيجابية في البيئة المكانية التي لا تزال تربط الفرد بالمكان رغم التدهور الحاد في الوضع الخدمي الذي يمس الحاجات الرئيسية للفرد، وما يدعو للاستغراب ان هذه المعايير الإيجابية كامنة في بيئة العشوائيات رغم كل ما تعانيه من سلبيات.

مراقبة ورصد المكان المدروس على فترة زمنية طويلة

قمت بعملية رصد بتجربة المرور بنفس طريق الخبز المدروس لمرات عديدة وعلى أساس هذه الرحلات تشكلت حبكة القصة المصورة. في بداية الأمر أخذت الفرضية الدراسية على عاتقها مهمة إثبات إذما كان للبيئة المبنية علاقة بتوليد حالة من إضعاف الارتباط بالمكان.. وباستخدام أدوات القياس المختلفة وجدنا أن الإجابة كانت: نعم .. لمكونات البيئة المبنية ما هو ذو أثر واضح لتكوين حالة من إضعاف الارتباط به

وفي سياق الدراسة رأينا أنه ليس من الكافي فقط إثبات صحة وجود ضعف الانتماء من عدمه وعلاقته بمقومات البيئة المكانية على طول المسار ومجرد تحليل ومواصفات المبنى الاستهلاكي وعمارة الطابور الطوابير وتأثيرها على الشعور بالانتماء وحسب، بل تجاوزها إلى أبعد ما هو مجرد إثبات وجودها من عدمه (أي دراسة طبيعة وجود ضعف الانتماء للمكان أي بعبارة أبسط: إن كان وجود ضعف الانتماء للمكان أمر مثبتاً كنتيجة أولى وفق الدراسة. ما هو عدم الانتماء للمكان؟ ما هي الظواهر المؤلفة لطبيعته؟ وما هي الظواهر التي يظهر من خلالها (تجلياته)؟ ماهي التفسيرات المرتبطة بطبيعة هذا الموضوع؟

ظهرت هذه الاسئلة بعد ان ظهرت تلميحات مسبقة مرتبطة إجابته أثناء دراسة متوالية المشاهد العمرانية، بعبارة ابسط استنتجنا من خلال الدراسة ان لكل مشهد عمراني مدروس شعور معين يبثه في نفس الفرد الذي يختبره . مجموعة هذا المشاعر كأجزاء تؤلف مجتمعة الكل المؤثر العام على فهوم الانتماء للمكان المتأثر بطبيعة البيئة العمرانية وفق ابعاد مختلفة منها ما يرتبط بتراجع جودة الخدمات ومنها ما يظهر نتيجة لرحلة اليومية تشكل فرصة متكررة لتخاطب بها المدينة بمفرداتها السكان، وقد لا تكون مرتبطة بتمثيل جودة الخدمات فقط بالضرورة.

تولد كل ظاهرة عمرانية فيزيائية على طول الطريق شعور محدد (كما تشرح القصة) وتم الاعتماد أيضا في تحديد معظم أنواع كل من المشاعر التي يولدها كل مكان على المفاهيم التي انتقيناها من نظرية (غوردن كولن) نفسه:

 نذكر من هذه المشاعر على طول (طريق الخبز):

أ- شعور السيطرة المرتبطة بارتفاع الموقع والإطلالة إلى الأسفل (وفق كولن)

ب- شعور الألفة النابع من طبيعة المجتمع ذو الخلفية الإيديولوجية المشتركة والخلفية الطبقية المالية الواحدة في بيئة عشوائية الجبل. (وفق كولن)

ج- شعور التشويق النابع من طبيعة الحارات غير المنتظمة في العشوائيات. (وفق كولن)

د- شعور الصدمة الناتج عن الانتقال (التحول) بين المنطقة العشوائية الفقيرة غير المنظمة والمنطقة المنظمة وملاحظة الفوارق الخدمية المبنية على أساس طبقي (وفق هذه الدراسة)

ه- تنامي شعور عدم العدالة (لظلم) لدى ملاحظة الفوارق الصارخة بين المنطقتين والمقارنة المستمرة في طريق الوصول للمخبز (وفق هذه الدراسة)

و- صدمة ثانية عند الوصول للمخبز ورؤية الطوابير الطويلة (وفق هذه الدراسة)

ز- القلق الملازم للشخص في الوقت الذي يكون فيه جزء من تكوين الطابور منتظراً (وفق هذه الدراسة)

ح- غضب يتنامى ويزداد طرداً بازدياد فترة الانتظار (وفق هذه الدراسة)

إضافة لمشاعر أخرى من التوتر والمنافسة وعدم الراحة الفيزيائية والنفسية والتعب والألم وخصوصا في رحلة العودة صعوداً محملاً بأوزان الخبز صاعداً إلى أعلى الجبل

متوالية المشاعر على طول المسار المدروس

لا يراد من ذكر المشاعر المرتبطة بالبيئة المكانية أن يتم تفسير أن ضعف الانتماء هو موقف مبني على مجموعة انفعالات ومشاعر فقط!  بل هي نتيجة يتوصل لها الساكن للمكان نتيجة لاجتماع المحاكمات العقلية والشعورية معاً: 1- العقلية: محاكمة تتم من خلال معالجة المؤشرات التي تدرك بالمنطق والمادة والحواس 2- الشعورية: محاكمة تتم من خلال معالجة المؤشرات و انطباعات شعورية وحصيلة ما تبثه البيئة من رسائل ويتفاوت هذا المقياس الشخصي الشعوري من فرد لفرد – بعبارة أخرى اختلال الانتماء للمكان هو نتيجة لمحاكمة (عقلية شعورية) يختبرها الفرد في بيئة مكانية بمجموع مكوناتها المادية والاقتصادية والتكوينية وما تحمله من رموز تنشأ مع الزمن نتيجة تفسيرات الأفراد العقلية المنطقية والشعورية معاً في آن واحد).

التجربة المكانية هي تجربة (عقلية شعورية) لعدم إمكانية فصل الكيان الإنساني بالأساس بالحالة الاعتيادية إلى كيانين ديكارتيين منفصلين –  أي العقل في صندوق والشعور في صندوق آخر-  بل باعتبار العقل والشعور مكونان عضويان متحدان في وجود الإنسان. عدم قابلية المشاعر للقياس رياضياً لا يعني تجاهلها- واختلافها وتنوعها الشاسع بين شخص وآخر ليس مبرراً لإهمالها في الدراسات العمرانية وخصوصا عندما يكون للكيان الشعوري للإنسان دوراً في تحديد تصرفاته الفعلية تجاه المكان وهي تجلي مادي للشعور.

ألا يعتبر قرار الفرد الفعلي على هجران المكان بسبب شعوره بعدم الانتماء تجلياً مادياً مبني على شعور ومحاكمة عقلية معاً وفق ما تبثه معطيات البيئة المكانية نفسها وظروفها مجتمعة؟

الانطباعات الشعورية على طول المسار المدروس

ننتقل بعدها لتحديد ذروة كل من هذه المشاعر على مخطط أقسام المسار المدروس، وشدة هذا الشعور وفق مقياس اعتباري تقريبي يقيس حدة هذا الشعور من 1 إلى 3 وهو مقياس فرضي توضيحي -رغم أن المشاعر أمور لا يتم قياسها رياضياً إلا أنها تتفاوت نسبياً لدى الانتقال من مكان لآخر على طول المسار، فيكون هذا المقياس الاعتباري هو أداة توضيحية تظهر هذه النسبية ليس إلا، والغرض في هذا ليس الحصول على نتائج رقمية رياضية لمفاهيم لا تقاس رياضياً، إنما تمثيل بياني شكلي  لكل شعور من هذه المشاعر نستقرأ منه ذروة مرتبطة بمكان ذو مواصفات عمرانية محددة.

وجدنا أن في نهاية المسار تراكم هذه الانطباعات والمشاعر ومع الوقت ومن خلال التكرار اليومي وتداخل الانطباعات والانفعالات والمشاعر، يضعف الارتباط بالمكان .

ومن خلال مطابقة جميع الرسوم البيانية التي تصف جميع هذه المشاعر نخلص إلى صورة صادمة من المشاعر السلبية المتداخلة والمتضاربة يختبرها الفرد في مجرد رحلة يومية يفترض أن تكون أكثر بساطة مقارنة بحياة فرد آخر في مدينة خارج سورية لا تعاني من الطوابير .. كما نحاول أخير في هذه الدراسة تمثيل المتوالية الشعورية على طول الطابور بوجود عامل الزمن فكلما زاد وقت الانتظار على الطوابير أزداد معه الوقع النفسي على الفرد.

مجموع الانطباعات الشعورية المتراكمة والمتضاربة على طول المسار

في الختام

تصل الدراسة لنتيجة مفادها أن ما يضعف الانتماء للمكان، هو خليط من ظروف بيئية عمرانية محددة ومجموعة من المشاعر السلبية للمظاهر العمرانية يد مسؤولة عن توليدها، ومشاهد متوالية في المدينة لكل منها رمزيتها المرتبطة بتفسير الأفراد ضمن المكان المبني على خلفيتهم الثقافية تحمل دلالات غالبها سلبية تجتمع معاً وتنذر الشخص إنه في مكان لا يصلح له الارتباط به بالقدر الكافي ، وتنذر أن الحاضن العمراني غير محتوي ومرحب بقاطنه.

في القصة المصورة التالية ندمج جميع مراحل الدراسة التي تم ذكرها في هذه المقالة ضمن قالب مبسط يعكس ما خلصت إليه هذه الدراسة.. لأن هدف هذه الدراسة أن تكون مقروءة من عامة الناس من المجتمع الذين لا يمتلكون القدرة على تناول القضية بالمفردات المعمارية العمرانية التخصصية ما يمكنهم الوعي بقضيتهم وقضية المكان الذي يسكنوه، وتهدف الدراسة مستقبلاً إلى عرض القصة المصورة على سكان الحي المدروس نفسه ليبدوا رأيهم بها ومن ثم تقيس الدراسة:

ما مدى صدق تمثيل هذه الفرضية لواقعهم؟ وما مدى صحة الافتراضات المبنية في هذه القصة؟ لتبني الدراسة مجددا تحققاً جديدا يضاف لتدعيمها و تثبيت الافتراضات ضمن سيناريو القصة أو تصحيحها وإعادة النظر بها ..

القصة المصورة (طريق الخبز)

تأخذ هذه القصة من الموقع المدروس في المزة مسرحاً لها وأبطالها شخصيتين شابتين (سعيد وعيد). ترصد القصة رحلة ذهابهما في الصباح الباكر لجلب الخبز من منزليهما الكائنين في أعلى الجبل في عشوائية المزة 86 وصولا للمخبز في الأسفل مرورا بالمسار العمراني المذكور سابقاً ..

استخدمت القصة اللهجة العامية المحكية لإمكانية هذه اللغة على تكوين تمثيل أصدق عن الحال الراهنة للطوابير من مصطلحات عامية ذات دلالات دقيقة تصيب معاني متعلقة بموضوع الدراسة لا تصيبها اللغة الفصحى.

واستخدمت الأسلوب الساخر في محاكاة لعادة مرتبطة بطبيعة الفرد السوري وثقافة الفكاهة المعهودة لديه أثناء أزمات عصيبة كهذه. أسلوب الرسم في القصة مجرد وبعيد عن أي تفصيل كي تتيح للقارئ مساحة بيضاء يعبئها من خياله الخاص وتتيح له الحرية في ملئ الفراغات في الصور المقدمة بتفاصيل من ذاكرته الخاصة عن المكان، والاختزال في الرسم كان بغاية التركيز على الحالة العمرانية المقصودة بشكل مباشر بعيدا عما يشوشها من التفاصيل الصورية الأخرى، والتركيز بشكل واضح على تعابير الوجه من اجل الربط بين المشاعر التي تم ذكرها في الدراسة وتمثيلها في القصة وهي وسيلة لمخاطبة القراء بشكل مباشر علها تمثل ما يشعرون به.

لتحميل القصة

يجب العمل على نموذج مدينة ذات بيئات التي تبث في سكانها إشارات إيجابية بلغتها ومفرداتها التي تحمل رموز تولد من تفسير الأفراد للظواهر العمرانية، فتتشكل لديهم ثقافة مكان صحية من تجلياتها الارتباط والتعلق بالمكان الأم

Leave a Reply

Fill in your details below or click an icon to log in:

WordPress.com Logo

You are commenting using your WordPress.com account. Log Out /  Change )

Twitter picture

You are commenting using your Twitter account. Log Out /  Change )

Facebook photo

You are commenting using your Facebook account. Log Out /  Change )

Connecting to %s